لكل قصة بداية، وهذه القصة تبدأ في دمشق في سبعينيات القرن الماضي. بناء وردي في حي المهاجرين، وفي الطابق الاول آلة موسيقية لعلها الوحيدة من نوعها في الحي بأكمله.
لا يزال بإمكاني أن أراها ... أختي الكبيرة سوسن وهي تعزف سوناتا ضوء منتصف الليل لبيتهوفن، وأنا جالس على الأرض بقربها أستنشق اللحن الحزين وأتمنى أن تستمر في العزف إلى الأبد. كان اللحن يبقى معي حينما كانت تاخذ بيدي لنتجول في شارع أبو رمانة نبحث عن الياسمين ... نضعه بعناية في كيس ورقي لنحوله بعد العودة الى بيتنا إلى أطواق بيضاء، تجد واحدة منها طريقها لحقيبة مُدرستي في مدرسة روضة الأحداث ... وفي الليل كنت لا أقبل أن أنام من دون الاستماع إلى قصة من قصص أختي السحرية عن مدينة وردية في كوكب بعيد.
لحن وأطواق ياسمين وقصص سحرية ... ذاك كان عالمي العذب البريء
لا ازال أذكر المرة الأولى التي رأيت فيها سوسن وهي ترتدي ما يُطلق عليه سكان دمشق بالحجاب. حجابٌ أزرق كزرقة البحر في بيروت. كنت في الثامنة من عمري آنذاك ولعلي كنت الوحيد من عائلتي الذي رأى جمالاً لا تديناً ... شِعراً لا منهجاً.
عرفت في قلبي رغم طفولتي؛ بل ربما بسبب طفولتي؛ أن سوناتا ضوء منتصف الليل ستسمر وأن اختي الجديدة قد ازدادت جمالاً وسحراً.
وهكذا بدأت قصة جديدة. أختي تصلي في غرفتها صلاة بعد المغرب، لعلها كانت تسميها بالأوابين. بداية سورة طه ... صوتها الهادئ ... وأنا كما كنت بالأمس جالساً على الأرض بالقرب منها أستنشق صوتها، متمنيا أن تستمر في الصلاة إلى الأبد
وحين لم تكن تصلي، كانت تأخدني في جولة من نوع جديد، جولة في سيارتنا البيجو 104 البيضاء التي كانت سرعان ما تمتلئ بالألوان الزرقاء والابتسامات المضيئة، والتي لا ادرك الى اليوم كيف كانت تسطيع الوصول الى أعلى جادات المهاجرين حيث كانت بضع العائلات الفقيرة تنتطر بشغف أطباق الطعام المصفوفة بعناية في الصندوق الخلفي للسيارة العجيبة.
وفي المساء كانت أختي تأخد بيدي لنذهب الى بيت، أحسب انه كان في حي المالكي، حيث كانت تجتمع النساء بأغطية رؤوسهن الزرقاء ليستمعن إلى إمرأة تحدثهم عن الكون وعظمة خالقه ومحبة الله لمن يكرم ويرحم عباده.
وقبل النوم، كانت أختي تجلس بالقرب من سريري لتقص علي قصص جديدة عن بشر الذي غادر قصره حافياً وهو يبحث عن درب يحرر قلبه، وعن رابعة التي أحبت الله لذاته لا لجنته.
تلكم هي الذكريات التي عصفت في ذهني عندما وصلني خبر رحيل الشيخة منيرة القبيسي رحمها الله. وكأني بذلك الطفل يعود ليبكي رحيل تلك المرأة صاحبة القلب المنير التي ملأت حياة أخته وحياته، بل وعائلته بأكملها نوراً ومعنى ...