لم يكن يوماً ما سهلاً بأن أكون ابن الدكتور محمد العمادي. اكتشفت ذلك مبكراً حين كان يتم إيقافي في الطريق من قبل أناس لا أعرفهم، ليحدثوني عن أخلاق والدي، وكيف أنه درّسهم أو عيّنهم أو ساعدهم في انجاز معاملة عرقلها الآخرون. أو قد يتسع الحديث إلى ما فعله الوالد مع وطنه، وكيف أنه عاد من الكويت ليعمل مع من كانوا مصممين على إعاقته عن إنجاز أي اصلاح مهما كان صغيراً. قصة بعد قصة كنت مرغماً على الاستماع إليها رغم معرفتي المسبقة بأدق تفاصيلها، وفي ختام كل هذا كان لا ينسى المتحدث أن يطلب مني الاقتداء بوالدي …
كنت أعرف بالأمس كما أنا أعلم اليوم أنني أفتقد لتلك الصفة المستحيلة التي كانت قد أهلت والدي لأن يكون ذلك الرجل.
سرّ والدي لا يكمن بعلمه أو موهبته أو أخلاقه رغم ندرة هذه الصفات، بل سرّه الذي لم أكن يوماً قادراً على الاقتداء به هو قدرته على أن يحمل هذا كله… علم و موهبة و خلق … أن يحمله جميعاً إلى عالم يتسم وبشكل جذري بنقيض كل هذا، بل وأن يبقى وفياً لهذا العالم لأكثر من نصف قرن.
كم أذكر كيف كنت أجلس أحياناً في مكتبه وهو يتفاعل بلطف وحكمة مع أناس لم يكونوا راغبين أو قادرين على استيعاب الافكار التي كان يحاول شرحها لهم. كنت أدرك بأن والدي يحمل راية اصلاح في عالم يترقب خطأً واحداً بقصد أو بغير قصد لينقلب عليه. الاصلاح سهل ممتنع. سهل لأنك تضع ما ينفع الناس أولاً. وممتنع لأنه ليس بإمكانك أن تضع ما ينفع الناس أولاً إن لم تكن مستعداً لأن تتعامل مع كل ما دون ذلك على أنه مجرد زبد سيذهب (عاجلاً أم آخراً) جفاء. نعم كان هناك من كان والدي يُسر بالعمل معهم، رجال ونساء آمنوا كما آمن بحتمية العمل على رفع مكانة وطنهم، ولكنهم كانوا كأشجار متناثرة في صحراء تزداد اتساعاً.
سرّ والدي أنه لم يكن ير لنفسه خياراً آخر رغم أنه في حقيقة الأمر كان لديه عشرات الخيارات، ولكنه حين كان يستمع إلى من يحدثه من أحبائه عن مكان آخر، عن عمل آخر بإمكانه أن يغادر إليه بعيداً عن هذا العالم الذي كان يسبب له الصداع تلو الصداع والأسى، بل والخوف من أعداء من أنواع مختلفة، كان يبتسم ويغيّر الحديث وكأنه يقول أنا خلقت لأكون هنا وسأخدم بلدي حتى النهاية.
رحمك الله يا والدي لقد انتقلت أخيراً إلى عالم يعلم من أنت، ويعلم ما كنت كل يوم تحاول إنجازه.
أستودعتك اللطيف الخبير الذي لا تخيب ودائعه.